الأطفال ذوو الإعاقة في غزة… معاناة مضاعفة جراء العدوان
رام الله 30 أيار 2024– يواجه الأطفال ذوو الإعاقة في قطاع غزة تحديات كبيرة ومعاناة مضاعفة جراء العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع منذ السابع من شهر تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، فهم معرضون أكثر من غيرهم للإصابات الجسدية والنفسية نتيجة القصف والتدمير المستمر، بالإضافة إلى فقدانهم الرعاية الطبية اللازمة والتأهيل، جراء الاستهداف المتعمد للمستشفيات والمؤسسات والمراكز التي تعنى بهم.
وفي هذا السياق، وثقت الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال حالات لأطفال من ذوي الإعاقة في قطاع غزة، انقلبت حياتهم رأسا على عقب جراء العدوان المستمر الذي يشنه الاحتلال على القطاع، ومن هذه الحالات الطفلة بتول (17 عاما) التي تعاني من إعاقة حركية وذهنية، بسبب تعرضها لحادث دعس عندما كانت في الرابعة من العمر، إذ كانت تعيش في كنف أسرتها المكونة من خمسة أفراد (الوالدان وشقيق وشقيقتان)، في حي الشجاعية بمدينة غزة، وقد تعرض منزلهم للقصف فاستشهد جميع أفراد أسرتها باستثناء الأب الذي تم ترحيله قسرا إلى جنوب قطاع غزة، وبتول التي تم إنقاذها من تحت الأنقاض بعد عملية بحث استمرت عدة ساعات.
تم علاج بتول من حروق وجروح متعددة في بيت أقارب لها من قبل ممرض متطوع، بعد أن أخرج الاحتلال معظم المستشفيات عن الخدمة.
وقالت بتول، بصوت ثقيل، للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال: “قصفوا بيتنا ودار عمي عنا نايمين، ماتوا وماما وأختي فاطمة وبنتها رؤيا وعلي أخوي… ضليت أصيح على ماما وهي مرمية جنب الباب، ماما بتحبني، وعلي أخوي بحبني، الله يرحمهم”.
وأضافت: “جابوني هون، كلهم ماتوا إلا أنا، أنا هسة بطلعش برة، نفسي أطلع”.
أما قريبة الطفلة بتول فقالت إن سكان الحارة تمكنوا من إخراج بتول من تحت الأنقاض، وقد كانت تصرخ وتنادي على والدتها والدماء تغطي جسدها.
وأضافت: “الحياة اختلفت بالنسبة لها، فقبل الحرب كانت الحافلة التابعة لـ”جمعية فلسطين المستقبل للشلل الدماغي” تأتي كل يوم صباحا وتأخذها للجمعية، وهناك تتعلم بعض المهارات وتلعب مع أطفال مثلها، وعندما تعود للمنزل تلعب وتضحك مع والدتها وأشقائها، كانت مدللة جدا ولكن الأمر اختلف الآن، فهي حاليا لا تفعل شيئا، تجلس طوال اليوم في بيتنا صامتة، بعد أن فقدت كل أهلها، ومؤسستها وأصدقاءها هناك”.
وأشارت إلى أن بتول لا تخرج من المنزل بسبب صعوبة حركتها جراء الإعاقة، خاصة أن الشوارع والطرق الآن مدمرة بسبب العدوان الإسرائيلي، فالأشخاص الأصحاء يجدون صعوبة بالغة في عبورها، فكيف بمن يعاني من إعاقة؟
وبينت أن بتول تعاني من سوء تغذية، حيث لا تتناول الطعام إلا مرة واحدة يوميا، ومن عدم توفر الأدوية والفرق الطبية المختصة بمثل حالتها، كما تعاني من نوبات بكاء، وتخاف من البقاء لوحدها ومن الظلام.
أما الطفلة ملك (15 عاما) فهي تعاني من إعاقة حركية منذ الصغر وتتنقل بواسطة كرسي متحرك، كانت وأسرتها المكونة من ستة أفراد (الوالدان وثلاث بنات وابن) يعيشون في منزلهم بحي الشجاعية، وجراء العدوان نزحوا إلى مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في شارع الصناعة أصبحت مركز إيواء للنازحين، وكان هذا هو نزوحهم الرابع خلال هذه الحرب.
وقالت ملك: “أخاف على أخي مالك لأنني أحتاج مساعدته ويضطر للتأخر، وفي إحدى المرات كان القصف قريب جدا منا، فشعرت بالذنب والقلق عليه”.
وتابعت: “أمي دائما تتحدث عن خوفها عليّ عندما نضطر للخروج، وأبي مريض ويحتاج لمساعدة أيضا، فيضطر أخي مالك للعودة مرتين لإخراجنا من البيت”.
وأضافت: “نزحنا أول مرة عندما قصف الاحتلال حي الشجاعية قبل الهجوم البري بأسبوعين تقريبا، وعدنا وجدنا بيتنا مهدوم بشكل جزئي، أخي مالك نظف غرفة وضل ينقل فينا والأغراض طول اليوم، وفي نفس الليلة بدأ الهجوم البري علينا، مع قصف قوي، فقالت أمي لأخوي خذ أختك وصلها للمدرسة، وسألحقك مع أبوك وخواتك، كانت الشوارع مدمرة، كنا نسير والقصف والحجارة والشظايا تتطاير فوقنا وحولنا، وجثث الشهداء في الشوارع”.
وتابعت: حملني أخوي على ظهره في الليل، فلا مجال للتنقل بالكرسي المتحرك، وقعنا عدة مرات على الأنقاض وأصيب مالك بجرح في وجهه ويده، وعندما وصلني للمدرسة، رجع ليساعد أهلي”.
أما والدتها فقالت: “ابنتي ملك تعاني أشد المعاناة في الحصول على القليل من الراحة، فهي تحتاج رعاية خاصة تفتقدها في ظل حالة النزوح المستمر في الشوارع والمدارس، بطلت تأكل وإذا أكلت تستفرغ، خايفة عليها تموت من الجوع، دايما حزينة وصامتة وما بتنام بالمرة، لا يوجد أطباء ولا دواء، لا نعرف ماذا نعمل معها”.
وأضافت: “مرت علينا أشهر لا نجد شيئا نأكله، كنا نبحث عن أي شي لسد الجوع، أحيانا نأكل ليمون وملح، وفي أحسن الأحوال نجد بعض التمر”.
وأشارت والدة ملك إلى أن ابنتها تعاني من سوء تغذية بسبب فقدانها للشهية، ومن الشعور الدائم بالذنب والقلق والخوف، ومن كوابيس، ونوبات من الحزن والبكاء، وانطواء وعزلة اجتماعية، وعدم توفر الأدوية والأدوات المساعدة لها.
أما الطفلة غادة (8 سنوات) التي تعاني من إعاقة ذهنية، فقد وجدها الباحث الميداني للحركة العالمية للدفاع عن الأطفال صدفة هائمة على وجهها في شارع الرشيد غرب مدينة غزة، تسير باتجاه تمركز قوات الاحتلال الإسرائيلي.
وبعد البحث، تمكن الباحث الميداني من إعادتها إلى ذويها في مدرسة تابعة للأونروا في حي الصبرة، أصبحت مركز إيواء للنازحين، وقد تبين أنها خرجت من المدرسة حيث كانت تقيم فيها مع أسرتها بعد أن نزحوا من منزلهم الذي دمر بشكل كلي والكائن في منطقة الكرامة بمدينة غزة، دون أن ينتبه أحد لها.
وقالت والدتها: “كانت غادة قبل الحرب تذهب كل يوم بحافلة إلى مؤسسة خاصة بذوي الإعاقة، وعندما تعود تلعب معي ومع والدها وأخوتها قبل أن تنام، واليوم وخلال القصف والتدمير تريد أن تخرج من المدرسة وأن تتجول في الشوارع، وأنا ووالدها وشقيقها نحاول منعها من ذلك”.
وأضافت: “غادة تشعر أن الدنيا تغيرت عليها، لا بيتنا موجود ولا مؤسستها موجودة، ولا معلماتها، ولا صديقاتها، كل شيء تغير عليها”.
لم تتمكن غادة من الحديث بشكل واضح ومفهوم بسبب طبيعة الإعاقة التي تعاني منها، ولكن عندما تم إعطاؤها بعض الألعاب من أطفال آخرين، استمتعت بها ورفضت إعادتها، وكأنها تريد قضاء وقت أطول في اللعب.
وبينت والدتها أن غادة أصبحت تتصرف بعنف، وتعاني من نوبات من الصراخ والكلام غير المفهوم، ولوازم حركية نمطية (مثل حركة العين وثني الرقبة)، إضافة لعدم توفر الأدوية والدعم الطبي والنفسي والرعاية اللأزمة لها، وعدم توفر الغذاء والماء بشكل كاف.
أما الطفل محمد (13 عاما) فقد كان يعيش في كنف أسرته المؤلفة من 7 أفراد (الوالدان وثلاثة أخوات ومحمد وأخ أصغر منه) في مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة، وبعد أن تعرض منزلهم للهدم بشكل كلي جراء العدوان نزحوا أكثر من 10 مرات، حتى استقر بهم المقام في مدرسة تابعة للأونروا في حي التفاح.
أصيب الطفل محمد بشظايا صاروخ إسرائيلي أثناء نزوحه مع أسرته في مدرسة الفاخورة بجباليا سببت له حروقا متعددة، وأجريت له عملية تركيب بلاتين في الساق اليمنى في مستشفى كمال عدوان وقتها، إلا أنه ما يزال بحاجة لمزيد من العلاج والمتابعة الطبية، وهذا غير متوفر الآن بسبب تدمير الاحتلال لمعظم مستشفيات قطاع غزة، إضافة للعدد الهائل من الجرحى.
وقال والده إن الحروق تغطي معظم جسد محمد وساقه فيها عدد كبير من الشظايا، وأن أشقاءه يحملونه إذا أراد الانتقال من مكان لمكان، فهو لا يستطيع الذهاب لقضاء حاجته دون مساعدة.
وأضاف: لم أستطع الحصول على كرسي متحرك، وحتى لو حصلت عليه فكيف سيتنقل به محمد وسط هذا الدمار؟
وتابع الأب: ساءت الحالة النفسية لمحمد، عندما يذهب لقضاء حاجته يبكي لأنه يطلب المساعدة، لقد كان نشيطا، وكانت أمنيته أن يصبح طبيبا، لكن بعد الإصابة أصبح حزينا ومكتئبا، يخجل من الناس، ويتلعثم في الكلام”.
أما الطفل محمد فقال: “حياتي صارت مملة جدا، معظم وقتي في الصف، لا أحب الخروج، كل مرة أخرج فيها من الصف إما أسقط أرضا أو يصطدم أحد بساقي المصابة بالخطأ، وأسوأ شيء عندما أذهب لقضاء حاجتي، لا أستطيع الحركة بسبب ساقي والحروق التي في ظهري”.
وتابع: “قبل الحرب كان في مدرسة وأصدقاء وحياة، كان عندي فريق من الحارة لكرة القدم نلعب كل يوم العصر، وكل جمعة مع الفجر أسبح في البحر مع أصدقائي، وقبل الحرب بيوم كنت بسبح في البحر، يبدو أننا كنا نودع البحر للمرة الأخيرة”، مشيرا إلى أن جميع أصدقائه نزحوا إلى الجنوب، ولا يوجد له هنا أي صديق.
“إذا خلصت الحرب وطابت رجلي والحروق، أول شيء بدي أعمله إني أسبح في البحر”، قال محمد.
ويعاني الطفل محمد، حسب والده، من فقدان للشهية، وشعور بالقلق والخجل والتوتر، ونوبات من الحزن والاكتئاب، وانطواء وعزلة اجتماعية، وعدم توفر الأدوية والأدوات المساعدة.
وحول معاناة الأطفال ذوي الإعاقة في قطاع غزة خلال العدوان، قال مدير مركز الأطراف الصناعية- بلدية غزة، محمد دويمة إنه “كما تتأثر النساء والأطفال بشكل خاص أثناء الحرب، فإن ذوي الإعاقة يواجهون أيضا تحديات خاصة عندما تصبح حياتهم مهددة بالحرب التي تسببت في قتل وإصابة أعداد كبيرة منهم، لعدم مقدرتهم على التحرك بسرعة، وصعوبة التنقل نظرا لتدمير الشوارع وعدم توفر المركبات وإن توفرت لا يوجد وقود يحركها، إضافة إلى نقص الأدوية الخاصة بهم وعدم سماح قوات الاحتلال بإدخالها، إذ إن بعض حالة الإعاقة بحاجة إلى أدوية وعلاجات مستمرة”.
وأكد أن الأطفال المعاقين والمصابين بحاجة إلى رعاية خاصة، ومختصين للتعامل معهم الذين أصبح من غير الممكن استمرار من بقي منهم على قيد الحياة أن يقوم بعمله، نظرا لتواصل القصف وهدم البيوت والمؤسسات، وعدم توفر الإمكانيات المادية عند الأهالي لتأمين مستلزمات الحياة الأساسية، عدا عن تأمين أدوية في حال توافرها أو تأمين مختصين لعلاج ذوي الإعاقة.
وأضاف أن تواصل العدوان أدى إلى تزايد أعداد ذوي الإعاقة، خاصة حالات بتر الأطراف، ما يفاقم المشكلة، ويزيد من معاناة هذه الفئة، ويقلل فرص حصولها على الرعاية المناسبة.
وشدد دويمة على أن الأطفال ذوي الإعاقة في غزة بحاجة إلى تحرك دولي لتأمين احتياجاتهم من مراكز وأدوية ومختصين، فهم من أكثر الفئات التي فقدت أبسط مقومات الحياة في غزة.
من ناحيته، قال مدير دائرة الدفاع الاجتماعي في وزارة التنمية الاجتماعية بقطاع غزة معتز دغمش إن مصير عشرات الأطفال من ذوي الإعاقة أصبح مجهولا في ظل حرب عدوانية مستمرة، ضربت بعرض الحائط كل المواثيق الدولية الداعية لحماية المدنيين من الأطفال والنساء وكبار السن والطواقم الطبية وكوادر الدفاع المدني.
وأكد دغمش أن الأعداد الكبيرة من النازحين من الأطفال المصابين وذوي الإعاقة لم يتلقوا الرعاية الطبية الكافية خلال العدوان، بسبب كثرة الإصابات وتدمير المستشفيات ومؤسسات الرعاية في قطاع غزة وقتل العديد من القائمين عليها.
بدوره، قال مدير “جمعية المستقبل لرعاية ضحايا العنف في غزة”، أيمن السرساوي، إن ذوي الإعاقة في غزة هم أكثر الفئات عرضة للموت في هذا العدوان، فالأشخاص الصم والمكفوفون لا يمكنهم معرفة أوامر الإخلاء أو رؤية وسماع القصف، كما أن ذوي الإعاقات الذهنية لا يستطيعون الإبلاغ عن مكان وجودهم لفرق الإنقاذ أو لأقاربهم، وكذلك الأشخاص ذوو الإعاقات الجسدية الذين يعتمدون على أجهزة مساعدة لا يتمكنون من التنقل والنزوح، فالشوارع إما مغلقة بأنقاض البنايات المدمرة، وما تبقى منها أصبح غير صالح للاستخدام، إضافة لتدمير معظم المركبات.
وأشار السرساوي إلى أن من أكثر صور الحرب بشاعة جثث العديد من ذوي الإعاقة- كبارا وصغارا- وهي ملقاة في الشوارع وقد داستها دبابات الاحتلال.